بقلم - جهاد فاضل :
ثمة عدوان مختلفان فيما بينهما في الظاهر كل الاختلاف، ولكنهما متحدان في النظرة إلى العرب كل الاتحاد وإلى درجة التطابق التام، هما الفرس واليهود وتتبدى الوحدة التامة في هذه النظرة أكثر ما تتبدى في التعامل مع العرب على أنهم مجموعة من الأقوام والقبائل والعشائر والطوائف والمذاهب، لا على أنهم أمة كسائر الأمم. فالعرب عندهما سنة وشيعة وإسماعيليون ودروز وكلدان وسريان وموارنة وكاثوليك وأقباط وأقليات عرقية وقومية ولغوية. ويمكن التماس هذه النظرة الإيرانية والإسرائيلية المتطابقة إلى العرب فيما لا يحصى من الممارسات، فمنذ نشوء دولة إسرائيل في عام ١٩٤٨ إلى اليوم، واليهود يفرزون اللبنانيين إلى مذاهب وطوائف عاقدين يوماً علاقة مع هذه الطائفة، ويوماً آخر مع تلك ويأبون على الدوام التعامل مع لبنان ككيان وطني واحد هم "يهود"، إذن الآخرون هم سنة وشيعة وموارنة لا لبنانيون ولا عرب. وقد سار على هذه النظرة إلى العرب حتى كبار علمائهم ومؤرخيهم المغتربين في لغات وحضارات أخرى مثل المؤرخ الأمريكي الشهير برنارد لويس المتخصص بتاريخ الإسلام والذي يرفض تناول العرب والمسلمين عموماً إلا على هذا الأساس.
أما الإيرانيون المعاصرون ومنذ ثورة الخميني على الأقل إلى اليوم، فقد أشعلوا نار المذهبية الدينية عند الشيعة العرب وألحقوهم إلحاقا تاماً بهم على أساس أن السنة العرب المعاصرين هم أحفاد عمر بن الخطاب ومعاوية ويزيد الذين ناصبوا الإمام علي وأبناءه العداء وألحقوا بهم الهزيمة فالواجب الديني، أو التكليف الديني، يقضي والحالة هذه بإعادة صقل السيوف والرماح وإقامة الخيام والمعسكرات من جديد سعياً للثأر في يوم قريب موعود، وقد لا يكون في رسم مثل هذه الصورة أي مبالغة إذا انطلقنا من الثقافة الحزبية والشعبية الشائعة الآن في المناطق التي يقيم فيها الشيعة سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو سواها. ويعتمد الإيرانيون في ذلك على ما يمكن تسميته «بمحطات التقوية المحلية» ومنها حزب الدعوة في العراق المعقود اللواء لرئيس الحكومة والحزب نوري المالكي، وحزب الله في لبنان الذي نقل الشيعة اللبنانيين من طائفة كانت راحلة مثل سائر الطوائف اللبنانية نحو الحضارة الحديثة ونشدان كل معطياتها ومظاهرها وإنجازاتها، إلى طائفة لا حديث يومياً دائماً لها في مجالسها إلا حديث موقعة الجمل وموقعة صفين وسائر مواقع المسلمين قبل ألفي سنة.
ويبدو أن المثل الشعبي الذي يقول بأن كثرة الطرق تفك اللحام، يقع في محله، فقد اقتنع الشيعة العرب مع الوقت واستناداً إلى دعاة إيران ودعوتها بأنهم مجرد شيعة لا عرب روابطهم مع إخوتهم في الوطن والقومية، أي مع السنة العرب، هي روابط شكلية وهشة، في حين أن روابطهم الوثقى هي مع الشيعة الإيرانيين وسائر الشيعة في العالم، وربما وصلوا الى الاقتناع الآن بأن «التشيع» هو دين مستقل عن الإسلام، وليس مجرد مذهب من مذاهب المسلمين كما يقول التاريخ، وكما كان تعليم علماء الشيعة سواء في النجف أو في سواها من مراكز الفقه والعلم عند الشيعة في مرحلة ما قبل الخميني الإيرانية الحالية.
والواقع أن من ينظر بالعين المجردة وبعين التحليل البارد إلى صورة المشرق العربي في الوقت الراهن، يجد أن نظرة الفرس واليهود الى العرب كمجموعة أقوام وطوائف ومذاهب وجماعات متنابذة متصارعة فيما بينها إلى حد يهدد وحدة أوطانها وأقطارها الحالية، هي نظرة واقعية لا افتراضية. فالعراق عملياً قد تقسم إلى عدة أقسام لا ينقصه ليكرس تقسيمه دستورياً سوى اجتماع «لوياجيرغا» داخلي يستتبعه اعتراف خارجي. هناك دويلة للشيعة في الجنوب، ودويلة للسنة في مناطق الأنبار وما إليها هي في واقع أمرها ردة فعل على دويلة الشيعة لم يجد سنة العراق بداً من التلويح بها بعد أن وجدوا أنفسهم مجرد أهل ذمة عند المالكي وصحبه. وهناك دويلة الأكراد في الشمال التي تحولت عملياً الى بداية الدولة الكردية والتي ستضم عاجلاً أو آجلاً سائر أراضي الكرد في الشرق الأوسط.
أما في سوريا فإن دويلة شيعتها ( واسمهم في سوريا هو العلويون) فقد بدأت ملامحها الجغرافية والسياسية والاقتصادية في التبلور مع الوقت وما معركة القصير الحالية سوى توضيح لصورتها المستقبلية وجعلها تمتد من مناطق بعلبك الشيعية اللبنانية حتى طرطوس واللاذقية وقرداحة آل الأسد وما سرقة قسم كبير من معامل حلب ونقلها إلى مناطق الساحل السوري سوى محاولة واضحة لجعل هذه الدويلة قابلة للحياة. وعلينا ألا نستهين بقدرة اللعبة الروسية الإيرانية على جعل هذا المولود الذي يبدو مشوهاً قادراً على الحياة. فالمنطقة مقبلة على عصر همجي من التفتت والشرذمة ولن ينزعج الروس بهذا المشوّه البحري الذي سيمدهم بما لا يحصى من الفوائد لهم ولأسطولهم ولتجارتهم في المنطقة.
وفي لبنان لا تبدو خطط إقامة دويلة شيعية فيه خططاً تفتقد الى الواقعية فإذا كان المال والسلاح والتدريب والعدد في حكم العوامل المؤمنة فالباقي تفاصيل خاصة في ظل ضعف الطوائف الأخرى وقلة حيلتها خاصة أيضاً في ظل تراجع نفوذ القوة العظمى في العالم وعدم قدرتها على الحسم.
ويزيد في قتامة الصورة النظرة التشجيعية للإسرائيليين الى مثل هذا التصور لمستقبل المنطقة. فلا يفرح اليهود أمر بمقدار ما يفرحهم صحة نظرتهم وصحة نظرة كبير مؤرخيهم برنارد لويس الى العرب على أنهم ليسوا أمة أو شعباً بل أقوام وعشائر وقبائل وطوائف فعندها ستتحول دولتهم فوق تراب فلسطين الى دولة قائدة للدويلات الطائفية الجديدة ومهيمنة عليها ومتحكمة بمقدراتها على الصعد كافة.
من كان يتصور قبل أربعين أو خمسين سنة فقط من اليوم أن الأمة العربية ستسير نحو الشرذمة والتفتيت لا نحو الوحدة ؟
من كان يتصور أن التخلف سيتناسل الى درجة أن العراق الذي كان مرشحاً ليكون بروسيا العرب أو الدولة الحاضنة للوحدة سيتحول الى مجموعة دويلات مذهبية متنابذة وأن لبنان الذي كان المدرسة والجامعة ومركز الأبحاث والجسر مع الحضارة الحديثة سيتحول الى محطة بث إيرانية تبث بلا انقطاع ثقافة مذهبية غثة؟ ومن كان يتصور أن سوريا إبراهيم هنانو وشكري القوتلي والأتاسي والجابري وناظم القدسي وعدنان المالكي ستحكمها ولمدة نصف قرن عقلية القرداحة فتسيطر عليها هذه العقلية ولدرجة عدم القدرة على خلخلتها أو إزاحتها رغم مرور أكثر من سنتين وما لا يقل عن مئة ألف قتيل ودمار أكثر مدنها ومراكز العمران فيها ؟
ثمة خلل بنيوي خطير في الواقع العربي وفي الذات وفي العقل وفي النفس وفي الثقافة جعل مثل هذا الخراب الخطير يطغى إلى درجة العجز عن مواجهته وعلى مثل هذا الخلل ينبغي أن ينصب جهد النخب والمثقفين وسائر المعنيين بعودة الأمة العربية إلى الفعل والتاريخ من جديد.